بقايا حلم...
حين غرس ريشته في قلب محبرته كان الليل قد انتصف ..وكل شيء هادئ كما لو انه في حالة تأمل يرقب ما يدور في غياهيب الظلمة
المدى لا يتسع لضيق قلب أرقه بعدها إلا أنها تلك الحبيبة التي لا تعي معنى أن يكون القلب محبا.. إنها تتاجر بحلي القلب في سوق الخيانة الأسود حيث كل ثمين مرتفع يباع بدون تردد ..إنها لاتعي الفراغ الذي يستبد بوحشته الان ..تتندر الآن ربما بانتهاك حرمة ذات أظلها هجير الأيام وقر الليالي القارصة ..يحبها نعم ..وأحبها قبلا نعم ومازال ذلك الذي ينتظر مجيء نور خفت ويقين تلاشى في عتمة الظنون ..إنه لا يتوانى في أن يجاهر قلبه بذلك المجيء الذي طال بعد غياب ..إنه في حالة حوار لم يصل معه إلى نتيجة كسلطة ومعارضة يمنية، دون وفاق وحوار في فراغ .
هي تلك الجامعية التي نالت أعلى قدر في سلم الترقيات وهو ذلك البائس الفقير المعتر الصحفي الذي التقاها يوما على غير ميعاد في زمن المصادفات التائهة ورحلة البحث العنيد...ما أحبه في تلك الجميلة هو حبات عينيها المليئة بعنفوان التحدي وصخب النزال في معركة الحياة العنيفة ...إنها بالإضافة إلى أنها قوية وعنيدة حالمة تحمل في ثنايا هيكلها المتقزم الأنيق دفيء إحساس سار متدفق بلا انقطاع ..خالصة هي من دون البشر أحبها وهام بها واشتاق وتألم وارتكب كل الحماقات ..إنه دوما ذلك الخاسر العاثر المحكوم عليه دوما من الله أن يعيش هكذا في غيبوبة حرب وفقدان متواصل ..بالا مس كان يقلب ما مضى كان يواقع انتحارا لا بد منه ..إنه المازوشي الذي تسكره رائحة الألم الذاتي يتلذذ في تعذيب ذاته يستجر الماضي كي يغرسه نصلا في خاصرة حاضرة ومستقبله ليظل في حالة عثار مستدام .. يتأزم كلما هبت رياح من ذلك المندس في تلافيف الذاكرة يأبى أن يغادر ويستعصي على النسيان ..إنه وحيد بلا أب أو أم لقد فقد أمه وأباه وكانت مطمح طموح نزيه اعتورته حراب صناع الحرائق والآلام أؤلئك الذين يظنون أنهم خلقوا لكي يبقى الناس رهنا بهم وبتقييماتهم المستمدة من وهم قداسة منحها الله لهم..
قرأ ثم بكى..وأعاد تلك القراءة مرات و كان صوتها ..همس شفتيها في كل كلمة لقد خيل له كما لو انه يسمع صوتها.. بكى ثم بكى وزاد نحيبه ..
آه ما اقساك أيها الزمن.. لماذا أنا من دون البشر تنتصب خطوبك في دربي ..تنغرس أشواكك في قلبي... تدميني ثم ترميني جثة هامدة ومزق أشلاء على أسنة حراب الفكهين الساخرين... أنا الطيب البريء الساذج الذي كان يحكي أسراره بلا انقطاع المؤمن أن الحياة لاتستحق الكتمان وان الأسرار إسار للذوات الشريرة ..انا ضحيتي قاتلي وأنا الشقي الذي لم يتعلم رغم كل آلامه ..
بكى ثم بكى وحين كان يبكي غفى.. أثقل النوم أهدابه وفي الحلم رآءها تقول لاتبتأس لقد سامحتك
*إشتغل في صنعة أبيك ...
________________________________________
إشتغل في صنعة أبيك
يُحكى أنه كان هناك شابّ زاهد متعبّد يرتدي ثياب الزاهدين ، من ثوبٍ أبيض وعمامة خضراء وغيرها ، وكان هذا الشاب هو الذي يعيل أمه وإخوانه بعد وفاة والده ، وفي ذات يوم ضاقت في وجهه سبل العيش ولم يجد عملاً ، أو أي شيء يرتزق منه ، وكان يتمشّى في أحد الأيام في سوق البلدة والحزن يخيّم عليه وعلامات اليأس والقنوط ترتسم على وجهه ، فرآه شخصٌ من معارفه ، وسأله ما الذي بك يا فلان أراك على غير وضعك الطبيعي ، فأخبره عن حاله وعن الوضع الماديّ الصعب الذي يعيشه . فقال له : إعمل يا أخي في صنعة أبيك وتوكّل على الله . ولما كان الشابّ لا يعرف ما هي صنعة أبيه لأن والده مات وهم صغار توجّه إلى أمه وسألها قائلاً : ماذا كان أبي يعمل يا أمي ، وما هي صنعته فتغيّر وجه الأمّ وأصابها شيء من الوجوم وقالت بشيءٍ من عدم المبـالاة : كان أبوك يعمل في التجارة يشتري ويبيع ويربح ويرتزق من ذلك ، غير أن الشابّ لم يقتنع بهذا الكلام فقال لأمه : والله إن لم تخبريني عن صنعة أبي لأتركنّ هذا البيت ولن أعود إليه مرة أخرى . ولما رأت الأمّ الإصرار في نبرات ابنها وفي نظرات عينيه ، وأيقنت أنه يعني ما يقول تنهدت وهي تقول : وماذا كان يصنع أبوك يا ابني كان لصاً يحمل عَتَلَةً(1) ونَبُّوتَاً(2) وهذه هي أدوات صنعته ، فيفتح أبواب الناس خلسـة في الليل بالعتلة ، ويضرب بالنبوت من يجيء في وجهه من الناس ، لقد قضى أبوك أكثر أيام حياته هائماً على وجهه في الجبال مطارداً من الناس ومن الحكومة ، وقضى بقيّة أيامه في السجون ، وكنت لا أراه في السنة إلا لأيام قليلة ، وصدّقني إني كنت أتمنى له الموت حتى يريحني ويريح نفسـه . وسكتت الأم بعد أن أفرغت ما لديها من كلامٍ طالما كتمته ولم تُصرّح به ، ولكن دمعات خفيفة كانت تتدحرج من مقلتيها .
أما الشابّ فذهب إلى السوق وإشترى عتلة ونبوتاً ، وقرّر أن يشتغل في صنعة أبيـه ، وبعد منتصف الليل سار لوحده يحمل أدواته المذكورة حتى وصل إلى قرية مجاورة ، وكان الظلام حالكاً والليلة غير مُقمرة مما يُسهِّل مثل هذه الأعمال ، وتوجّه إلى أول بيتٍ صادفه في طرف البلدة ، وبالعتلة الحديدية فتح الباب الخشبي بخفة ورشاقة دون أن يُحدث صوتاً أو ضجّة ، ونظر داخل الغرفة وإذا برجل وامرأة ينامان على سريرهما ، فأغلق الباب وقال : أعوذ بالله من أعمال الشيطان ، وأخذ يلوم نفسه ويقول : من أعطاني الحقّ في فتح بيوت الناس وكشف أسرارهم وعوراتهم ، ثم ترك البيت وذهب للبيت المجاور ، وبخفة ورشاقة فعل به كما فعل بالبيت الأول ، وإذا بفتاة وحيدة تنام على سريرها ، فتعوّذ بالله من الشيطان مرة أخرى وأغلق الباب ، وقال لنفسه : إنّ هذه الأعمال التي أقوم به هي أعمال لا يرضاها الله ، فترك هذا البيت وسار إلى البيت الذي يجاوره ، وفتح بابه بعتلته كما فتح سابِقَيه ونظر داخله وإذا به يرى بضعة جِرَار ، فقال الآن أصبح الوضع أحسن مما كان عليه في الأوّل ، ثم دخل وفتح جرّةً من هذه الجرار وإذا بها مليئة بالقطع الذهبية والنقديّة ، وفتح بقية الجرار ، ونظر داخلها وإذا بها مثـل الجرّة الأولى ، فقال لنفسه : إن هذا المال له أصحاب ادَّخروه ووفّروه وتعبوا من أجله ، فمن أعطاني الحقّ في سرقته ، والله لن أسرقه ولكنني سآخذ منه الزكاة ، سأقسمه وآخذ منه العُشْر ، فأشعل سراجاً كان هناك وأفرغ واحدة من هذه الجرار ، وبدأ يعدّ ويخرج تسعة قطع ويضعها في ناحية ، ويضع قطعة واحدة في ناحية أخرى ، وهكذا وهو على هذه الحالة يعدّ تسعة هنا وواحدة هناك أذَّنَ مؤذّن البلدة لصلاة الفجر ، فترك العدّ وفَرَشَ عباءته وأخذ يصلّي الفجر ، ومرّ الناس إلى المسجد فرأوا البيت مفتوحاً والسراج مضيئاً فتنافروا وأتوا بهراواتهم وعصيهم ، وتحلّقوا حول الرجل ، ولكن عندما رأوه يصلّي تركوه حتى يكمل صلاته ، وبعد أن فرغ من الصلاة أحاطوا به وقالوا له : ما الذي تعمله هنا وكيف تفتح بيوت الناس وتأخذ أموالهم وما الذي تعمله في هذا المال حتى جعلته كومين : فقال لهم : أتركوني وسأخبركم بالحقيقة ، ثم سرد عليهم قصته بكاملها ، فقال أحدهم وكان أكثر الناس لغطاً : أما البيت الأوّل الذي فتحته ورأيت به الرجل والمرأة وسترتهم وأغلقت عليهم الباب ، فهذا بيتي والرجل الذي رأيته هو أنا والمرأة زوجتي ، أما البيت الثاني الذي فتحته ورأيت به الفتاة وسترتها وأغلقت عليها الباب فهذا بيتي أيضاً والفتاة هي ابنتي الوحيدة ، أما البيت الثالث الذي به المال وهو هذا البيت ، والذي لم ترضَ أن تسرق منه المال بل اكتفيت منه بالزكاة فهو بيتي أيضاً وهـذا مالي ، ولأنك شابّ مؤمن وتقيّ فقد زوجتك ابنتي الوحيدة التي رأيتها وقاسمتك في مالي هذا الذي بين يديك ، وأعطيتك بيتاً من هذه البيوت تعيش فيه مع زوجتك ، فخرَّ الشابُّ راكعاً لله يشكره ويحمد فضله ، على أن هداه وأبعد عنه إغواء الشيطان ، ثم ذهب إلى بلده وأتى بأمه وإخوانه ليعيشوا معه في هذا العزّ الذي لم يكن يحلم بـه .
وهكذا نرى مدى تأثير الإيمان على النفوس ، وعلى الأخلاق السامية النبيلة ، وكيف تقود الإنسان إلى عمل الخير ونبذ الشر والفساد .
(1) - العَتَلَة : عمود من الحديد له رأس عريض يستعمله البنَّاءُ ،ويُهدم به الحائط .
(2) – النبّوت : العصا الغليظة المستوية
***بيت لم يعرف الحزن ( قصة رائعة
________________________________________
هناك أسطورة صينية تحكي أن سـيدة عاشت مع ابنها الوحيد في سعادة ورضا حتى جاء الموت واختطف روح الابن
حزنت السيدة جدا لموت ولدها ولكنها لم تيأس بل ذهبت إلى حكيم القرية طلبت منه أن يخبرها الوصفة الضرورية لاستعادة ابنها إلي الحياة مهما كانت أو صعبت تلك الوصفة
أخذ الشيخ الحكيم نفسا عميقا وشرد بذهنه ثم قال:أنتي تطلبين وصفة ، حسناً احضري لي حبة خردل واحدة بشرط أن تكون من بيت لم يعرف الحزن مطلقا وبكل همة أخذت السيـدة تدور على بيوت القرية كلها و تبحث عن هدفـها حبة خردل من بيت لم يعرف الحزن مطلقا
طرقت السيدة بابا ففتحت لها امرأة شابة فسألتها السيدة هل عرف هذا البيت حزنا من قبل ابتسمت المرأة في مرارة وأجابت وهل عرف بيتي هذا إلا كل حزن و أخذت تحكي لها أن زوجها توفى منذ سنة و ترك لها أربعة من البنات والبنين ولا مصدر لإعالتهم سوى بيع أثاث الدار الذي لم يتبقى منه إلا القليل
تأثرت السيدة جدا و حاولت أن تخفف عنها أحزانها و بنهاية الزيارة صارتا صديقتين ولم ترد أن تدعها تذهب إلا بعد أن وعدتها بزيارة أخرى ، فقد فاتت مدة طويلة منذ أن فتحت قلبها أحد تشتكي له همومها
و قبل الغروب دخلت السيدة بيت آخر ولها نفس المطلب ولكن الإحباط سرعان ما أصابها عندما علمت من سيدة الدار أن زوجها مريض جدا و ليس عندها طعام كاف لأطفالها منذ فترة وسرعان ما خطر ببالها أن تساعد هذه السيدة فذهبت إلي السوق واشترت بكل ما معها من نقود طعام و بقول ودقيق وزيت ورجعت إلي سيدة الدار وساعدتها في طبخ وجبة سريعة للأولاد واشتركت معها في إطعامها ثم ودعتها على أمل زيارتها في مساء اليوم التالي
و في الصباح أخذت السيدة تطوف من بيت إلي بيت تبحث عن حبة الخردل وطال بحثها لكنها للأسف لم تجد ذلك البيت الذي لم يعرف الحزن مطلقا لكي تأخذ من أهله حبة الخردل
و لأنها كانت طيبة القلب فقد كانت تحاول مساعدة كل بيت تدخله في مشاكله وأفراحه وبمرور الأيام أصبحت السيدة صديقة لكل بيت في القرية ، نسيت تماما إنها كانت تبحث في الأصل على حبة خردل من بيت لم يعرف الحزن ذابت في مشاكل ومشاعر الآخرين ولم تدرك قط إن حكيم القرية قد منحها أفضل وصفة للقضاء على الحزن حتى ولو لم تجد حبة الخردل التي كانت تبحث عنها فالوصفة السحرية قد أخذتها بالفعل يوم دخلت أول بيت من بيوت القرية